قبل أن تقرأ هذا المقال:
ما أشبه اليوم بالبارحة.. فها هو أحمد حسين يكتب هذا المقال بجريدة مصر الفتاة (الاشتراكية) فى 15 سبتمبر 1950, وكأنه يتحدث عن أحوال مصر الآن وليس قبل قيام ثورة يوليو, فنقرأ ولنعلم أن دورة التاريخ تعيد نفسها, وأن الثورة الآن بالفعل آتية لا ريب فيها. (موقع العمل)
*******
قادم من الريف
بقلم : أحمد حسين
أيها الكبراء.. أيها الوزراء.. أيها الأغنياء
إننى لكم نذير مبين، فالثورة آتية لا ريب فيها.. إذا استمر الحال على هذا المنوال
أنا عائد من الريف بعد أن اجتزت قراه ومدنه ومراكزه، وسرت فى طرقاته، وجلست مع رجاله، وتحدثت مع عشرات ومئات الألوف.. فمن القاهرة إلى الشرقية إلى الدقهلية إلى محافظة دمياط إلى الفؤادية فالغربية.. كلها اجتزتها شبرا شبرا على طول الطريق. والآن إذ أجلس إلى مكتبى لأسطر هذه الافتتاحية لا أرى ما أخطه عنوانا لهذه الفكرة التى تجول فى نفسى إلا هذا الذى سطرته بعاليه من أن الثورة آتية لا ريب إذا استمر الحال على هذا المنوال.
إن كلمة الثورة تبدو ثقيلة على أسماع الحاكمين بأسرهم، وعلى الوزراء والكبراء والسادة، وهى لا تفزعهم لأنها كلمة من نسج الخيال ولأنهم يعيشون الآن فى دنيا غير دنيانا.. دنيا من الأفيون والمخدرات والأحلام..
كيف يمكن أن ترقى كلمة الثورة إلى أسماع القوم وهم غارقون حتى الأذقان فى مصايف أوروبا وشواطئها وفى نوادى قمارها (وكباريهاتها) الليلية؟! إن كل شىء على ما يرام، بل على ما هو فوق المرام..
إن أيام ألف ليلة وليلة قد بعثت من جديد، إن الأموال تنهمر انهمارا آتية من مصر، وإن الراقصات لتحيط بالسادة وترقص لهم وتغنى وتعربد.. فمن هذا المجنون المعتوه الذى يتحدث عن الثورة التى توشك أن تقع فى مصر وهى لم تكن أهدأ فى يوم من الأيام منها فى هذه الأيام؟!
متى حكمت مصر ورئيس وزارتها يلهو ويعبث فى أوروبا ونصف وزرائها فى الأجازة؟!
من هذا الأحمق الذى يتحدث عن الثورة وفى مصر جيش قادر على أن يسحق كل محاولة من هذا القبيل، بل وفى مصر بوليس تشترى له العربات المسلحة ومدافع التومى ويستعرضها وزير الداخلية؟
ثورة..؟!.. لعلك تقصد تغيير الحكومة لازدياد السخط عليها، ولكن من ذا الذى يفكر فى تغيير الحكومة وأى حكومة تحل محلها؟!
لا نظن أن الشعب يريد أن يعود إلى هذا العهد أبدا، فلعل ما تقصده هو أن يتقدم الشعب ببعض المطالب، ولكن إرضاء هذه المطالب لا يكون عسيرا، فباستطاعة الحكومة إذا حزب عليها الأمر أن تنفذ بعض إصلاحات أكثر شمولا فى كلمات طنانة رنانة، فلا تلبث العاصفة أن تهدأ.
أرأيت يا هذا الناعق بكلمة الثورة أن الحكومة تعرف كل شىء وهى مستعدة لكل شىء.. أما أنت فإن لم تكف عن هذه الكلمة فسنعتبرك أنت الثائر وأنت المحرض وسنذيقك وبال أمرك.. الخ.
ومع ذلك فانى لكم نذير مبين أيها السادة.. فالثورة آتية لا ريب.. ثورة تسيل فيها الدماء، وتحرق فيها الضياع وتطيح فيها الرؤوس وتبدل الأوضاع. ولعل أكبر علامة من علامات الثورة هو هذا الموقف الذى تقفونه وهذا الاستهتار الذى تعيشون فيه.
لم تقم فى بلد من البلاد ثورة انقلابية كان الحكام يتوقعونها أو يظنون أنهم غير قادرين على قمعها إذا قامت.. عندما اندلعت نيران الثورة الفرنسية كان الشعب الفرنسى نفسه أو من فوجئ بها ولم يكن فى حساب الشعب أن يقوم بثورة، ولم يكن هناك أى إعداد لقيام ثورة.. ولقد كان الحكام يتصورون أن كلمة الباستيل وحدها كافية لخنق أى فكرة من أفكار الحرية، ومع ذلك ففى صباح ذات يوم أصبح هذا الباستيل أثرا بعد عين، وذبح الحكام كما تذبح الشياه وسالت دماء السادة الذين كانوا غارقين فى الأموال والنفوذ والسلطات كما تفعلون، والذين كانوا لا يتحدثون إلا عن الجواهر التى يلبسونها أو التى يشترونها كما تفعلون.
والذين كانوا يتلفتون حولهم فى كل ليلة فيبهرهم مقدار الجمال والثراء والسلطان الذى يحيط بهم.
ومع ذلك فقد كانت باريس تغلى غليان المرجل، وكانت فرنسا كلها وراء باريس لا تنتظر سوى الإشارة، فلما كان هذا الحادث العارض - حادث سقوط الباستيل - إذا بالثورة الجارفة التى لم يسمع التاريخ بمثلها تقيم الجيلوتين لتحصد هذه الرؤوس الجميلة حصدا، وكان من أمر الثورة الفرنسية ما كان ومما هو مشهور ومعروف.
وعندما قامت الثورة الشيوعية فى روسيا كان الشعب الروسى هو أول من فوجىء بها، فإن الكوارث التى توالت على الشعب كانت قد جعلت التفكير فى الثورة شيئا بعيدا إلا فى رؤوس النفر القليل من الشيوعيين، ومع ذلك ففى خمسة أيام.. خمسة أيام مشهورة فى التاريخ الحديث.. خمسة أيام وصفها التاريخ ساعة فساعة ودقيقة فدقيقة.. وكيف بدأت بمظاهرة عادية لا تحمل فى ثناياها أى معنى غير عادى، ثم تطورت بعد ذلك فإذا بها ثورة.. ثورة جارفة.. وظن القيصر وظنت حكومته أنها قادرة فى نهاية الأمر على تهدئة غضب الشعب بمنحه ما كان يطالب به من إصلاحات فإذا الشعب لا يرضى بغير تغيير شامل كامل.. وفى كل ساعة كانت مطالب الشعب تزداد وتقوى حتى أن تنازل القيصر عن العرش لابنه لم يعد مقبولا فى اليوم الرابع، وأصبحت المطالب تتلخص فى كلمة واحدة وهى القضاء على القيصرية وإعلان الجمهورية.
وقد حدث هذا التحول العجيب فى خمسة أيام فقط، فليرجع إليها من يريد أن يطالع ومن يريد أن يعتبر ويتعظ.
ونحن الذين طالعنا مقدمات الثورة فى فرنسا وفى روسيا نرى أن هذه المقدمات قد وجدت الآن فى مصر، وما كنا ندهش منه ونحن نطالع التاريخ من غفلة هؤلاء الأشراف والأمراء والكبار يؤسفنا أن نقول إنه لم يعد محل دهشتنا لأننا أصبحنا نراه واقعا ملموسا فى هذه الأيام.
فقد كان يدهشنا ونحن نطالع عن جوع الشعب الفرنسى والشعب الروسى وسوء حالته، أن نطالع فى الوقت نفسه عن انصراف الحكام والكبراء إلى اللهو والعربدة.
كان يدهشنا أن لا يسمع الكبراء أنين الشعب بعد أن أصبح يصم الآذان، وأن لا يحاولوا تهدئة غضب الشعب بعد أن أصبح هذا الغضب ينذر بأشد الأخطار. كان يدهشنا أن نرى رجلا أفاقا مثل راسبوتين ورجالا على غراره فى البلاط الفرنسى يستطيعون أن يصلوا إلى مركز السلطان والقوة. ولم يعد شىء من ذلك كله اليوم يدهشنا لأننا نراه ملموسا ومحسوسا بصورة عجيبة.
بقى ما يتصوره بعض هؤلاء الأغرار من الحكام والوزراء والسادة من أن الشعب المصرى ليس كالشعب الفرنسى ولا هو كالشعب الروسى، ومن قبلهم تصور الإنجليز هذا التصور، ففاجأتهم ثورة سنة 1919 الجارفة التى نتحدى أن يكون قد قام بها شعب قبل الشعب المصرى. كان قيام المصريين المسالمين الخانعين فى ظل الإنجليز هو آخر ما يتصورونه ولكن الشعب قام بثورته التى أيقظت الشرق بأكمله.
الذين يتصورون أن الشعب المصرى لن يثور كما ثار الشعب الفرنسى من قبل أو الشعب الروسى، سوف يدفعون ثمنا باهظا لتصورهم.
اننى عائد من الريف كما قلت. فأى ثورة تلك التى رأيتها تجيش فى النفوس، أى سخط وأى غضب وأى هيجان!! ليت الوزراء والحكام والكبراء كانوا معى متنكرين ليسمعوا بآذانهم كيف تذكر أسماؤهم وسط المهانة والازدراء والغضب، ليتهم وقفوا على شاطىء الترعة كما وقفنا ليسمعوا من فم أصغر الفلاحين الذين يتصورونهم جهلة وهم يتحدثون عن رئيس الوزراء الذى ترقص أمامه سامية جمال، وعن الأغنياء الذين ينفقون أموالهم على موائد القمار وعلى الغانيات فى الوقت الذى يتضور فيه الشعب جوعا.
ليتهم كانوا معنا ليروا ويسمعوا كيف كان الشيوعيون يتصدون لنا فى كل مكان لينددوا بأسلوبنا فى الدعوة إلى الثورة..
إن حديث الثورة وضرورتها قد دب إلى آخر وأصغر قرية مصرية، وإذا كنت لم أحصل على النجاح الكافى فى رحلتى فلأننى لم أدع إلى الثورة، وكان النقد الوحيد الذى يوجه إلىّ.. أننى لا أدعو إلى الثورة..
ليت الوزراء والحكام كانوا معى فى بلاد شاوة حيث يتحكم رجال الخاصة وأوقافها.. ليتهم كانوا معى وأنا مجهد لتخفيف هذا الغضب وهذا السخط الذى يريد أن ينفجر وأن يتخذ من فرصة مرورى العابر وسيلة لإعلان التمرد والعصيان.
إن الثورة آتية لا ريب فيها.. ففى كل مكان غضب، وفى كل نفس سخط.. وفى كل نفس نار مشتعلة، والمسألة لا تحتاج إلا للظرف المناسب والساعة المناسبة لكى يشتعل ذلك كله فى ومضة عين.
وبعد.. فإنى نذير للحكام ولولاه الأمور ولرئيس الحكومة ولرجال الخاصة وللسراى والأعيان والأغنياء.. إن الأمور لا يمكن أن تستمر على هذه الحال، وفرصتكم الوحيدة لإيقاف الثورة هى تطبيق المبادىء الاشتراكية والخطط الاشتراكية.. فإذا لم تفعلوا فهى الثورة الاجتماعية آتية لا ريب فيها.. وقد أعذر من أنذر.
|
|
0 التعليقات:
إرسال تعليق