مرحبا بكم أعزائى زوّار مدونة لقمة عيش ، ونلفت الانتباه إلى أن جميع المقالات المنشورة خاصة بصاحب ومحرر المدونة مالم يشار إلى إسم أو مصدر آخر - مع خالص تحيات المحرر: أبوالمعالى فائق

الأحد، 1 يونيو 2014

0 المصرى "دنيا سنوحى"


     ظننت عملى فى "دار الموت" شيئا مما ألفته فى حياتى كطبيب،فما أكثر ما رأيت من الموتى،وما أكثر ما شممت الروائح الكريهة تنبعث من أجسادهم،وما أكثر ما انغمست يدى فى قروح المرضى التى تنزف صديدا! . فهذا الجو الذى صرت إليه ليس إذن جديدا علىّ،غير أنى ما كدت أوغل فيه حتى أخذت أشعر بأننى أدخل منه فى دنيا أخرى غير تلك الدنيا التى عرفتها وعشت فيها،فكل ما أرى فيه يبدو غريبا ومثيرا ولا صلة له بسابق علمى وخبرتى..ومن ذلك أن جثث الموتى يختلف العمل فيها باختلاف درجات أصحابها،وباختلاف درجات الأجور التى تدفع عنها..وقد كانت جثث الفقراء منهم لا تتقاضانا إلا أيسر الجهد،فهى تلقى إلقاءا فى أحواض ملأى بماء الرماد والملح ذى الرائحة النفاذة،ثم يستعملون خطافا فى تقليبها بهذا السائل،وكنت ممن يقومون بهذه العملية فلم ألبث إلا قليلا حتى حذقتها،أما جثث الطبقات الأعلى مركزا والأوفر مالا،فكان يعنى بها عناية متميزة!..فأمعاؤها توضع بدقة ومهارة فى جرار خاصة،وتضفى عليها رعاية متصلة خلال مراحل التحنيط،وكان من علامات الخصوصية وآياتها فى هذه الجثث أن يظهر عليها "آمون" أكثر من ظهوره على الأحياء،وللمحنطين فى ذلك براعة لا يعد لهم فيها أحد،وكان قبل البدء بالعمل يقضون وقتاً طويلاً فى مساومة أهل الميت فى أثمان الزيوت والمراهم والمواد التى يزعمون أنهم يستعملونها فى حفظ الجثث من التعفن والبلى،وهى مواد يغالون فى مقدارها ويهوّلون فى خصائصها وأسرارها،وإن كانت كلها ترجع إلى مصدر واحد هو الزيت المستنبط من السمسم ..وبهذه الوسيله كانوا يحصلون من القادرين على الأجور العالية ويختصون جثث موتاهم بالمهارة الفنية التى لا يبذلون منها شئ لجثث الفقراء ..وقد كان من عنايتهم بالجثث المأجوره أنهم إذا ما أخرجوا أمعائها،ملأوا فجوة البطن بقطعه نسيج نظيف يتخللها صمغ الصنوبر،أما جثث الفقراء فكانوا يملأون فجواتها بالزيت القارض الذى يذيبها ويبليها فإذا انقضت عليها ثلاثون يوماًُ بأحواض ماء الرماد والملح،أخرجوها وتركوها قليلاً لتجف،ثم سلموها لأهل الموتى ..
     وكانت "دار الموت" تحت رقابه الكهان،ولكنها رقابة خيالية ليست بذات أثر،فالمغسلون والمحنطون يعبثون بملابس الموتى ويستولون على ما فيها،ويرونها حقاً لهم،والواقع أنهم فى هذا كانوا يجرون على طبيعتهم،فهم من المجرمين الذين تطاردهم لعنة الألهة ومن الآبقين الخارجين على سلطان القانون،وكانوا يعرفون بسيماهم،وبما ينبعث من روائحهم الكريهة غادين ورائحين،ولهذا كان الناس يقذعونهم ويتحامون لقاءهم،ولم يكن يسمح لهم بغشيان الحانات أو بيوت الملاهى .
     ولقد ضقت بهم أيّما ضيق،وبخاصة حينما كنت أراهم،إذا ما خلو إلى الجثث،يمعنون فى العبث بها،حتى ما كان منها لأناس ممتازين،فيبترون بعض أعضائها ليبيعوها للسحرة والعرافين،حيث يتخذون منها مادة لشعوذتهم .ولو كانت هناك حقاً حياة ثانية فى الأرض الغربية،فإن الكثيرين من الموتى عندما يستيقظون سيدهشهم أن يفتقدوا فى أجسامهم أعضاءاً مبتورة،وسيدهشم كذالك أن النفقات التى دفعت للمعبد لقاء حفظهم ودفنهم قد ضاعت عبثا !..  

0 التعليقات:

إرسال تعليق